إحسان وكتمان

   في ذات يوم، بينما أنا أتنزّه على شاطئ البحر، متنقّلًا على صخوره، رأيت على الأعشاب الكثيفة الغضَّة رجلًا نائمًا، تدلّ ثيابه على فقره المدقع وتعسه وسوء حاله الذي ما بعدها سوء: قبَّعة رثَّة بشعة جرداء، مائلة على عينيه، وبدلة سوداء قاتمة، فاقدة الأزرار، وقلشين ظهرت ثقوبه العديدة من خلال ثقوب حذائه الخلِق، ولحيةٌ تشكو الطول، إذ لم تلامسها موس منذ ستّة أيام.

   استولت عليَّ رأفة شديدة من جرَّاء هذا المشهد المؤثّر وانعصر له فؤادي، فوقفت أرقب هذا المخلوق الحيّ الذي تجسَّمتْ فيه الفاقة المحزنة، وتناولتُ للحال من جيبي بدرة من المال صررتها صرًّا محكمًا في قصاصة ورق جريدة، ثم استَرَقتُ الخطى بتؤدة، دانيًا من ذلك الإنسان النائم، وتطلّعت إلى جيب بنطلونه فألفيتها مفتوحة، قد فُقِدَ الزرّ المُعَدّ لإغلاقها. ترى لماذا تحتاج الزّر، وهي دومًا خالية!؟

   دنوتُ منه، بدون إحداث حركة منبِّهة أو حسيس، وانحنيت صوبه وانتظرت هنيهةً كي يخمد الصوت اللطيف الناجم عن حفيف العشب الذي أمالته خطاي. ولم يكن، في تلك الدقيقة، الهرّ المتربّص بعصفورٍ لينقضَّ عليه ويصطاده بغتةً، بأشدَّ حذرًا وصبرًا منّـي، ولا اللص الداخل بيتًا ليسرقه بأكثر وجومًا وصمتًا، وقد أخمدْت أنفاسي لا أُبدي حراكًا؛ وقفت خلف رأس النائم، وأجزت حينئذٍ لنفسي تنسُّم الهواء قليلًا، وانحنيت رويدًا رويدًا، ومددت يدي وأدخلتها في تيك الجيب الخاوية البطن، الفاغرة فاها، واضعًا فيها تلك الصرّة الصغيرة، ثم نزعت يدي ونهضت بلطف حتى انتصبت قامتي، وابتعدتُ وأنا شديد الحرص على السكوت، ونأيتُ من دون أن يستيقظ ذلك الكائن التاعس.

   آه! أما أحبَّ ذاك الإنسان! وما أكبر الهناء والسرور اللذين غمراني واستوليا على قلبي في ذلك اليوم! وكم كان بودّي لو قدرت أن أزجَّ في جيبه هبةً أثمن من تلك التي زججتها، وفاءً له واعترافًا بجميله! إنّ هذه السطور، التي أدوّنها، إذا قُدِّر لذاك الرجل أن يطالعها، فليتقبَّل مني خالص الشكر عربونًا لهذا الجميل.

                                         يوسف س. نويهض

                                       مقتبسة من الفونس كارْ